انشاء حساب



تسجيل الدخول



صورة أرشيفية
كتب بواسطة: متدربي شفاف
02 سبتمبر 2016
6358

من إنتاج مشروع تقرير، المشروع التدريبي لشبكة شفاف الإخبارية

 

كتبت-شروق ياسر

 

بمبنى يكسوه عتق القديم، غرفة ضيقة نسبيًا بها سريران من النوع ذي الطابقين لتشمل أربعة أشخاص، بجوارهما مكتب أو اثنين حسب "التساهيل"، وخزانة للملابس، ونافذة تتسلل من خلالها أشعة الشمس وشقشقة العصافير، محاولاتان أن تبعثا حالة من السرور تقتلان به صمت الغرفة، ولم يتبقى من مساحة الغرفة سوى مكان تقف فيه للصلاة، فللوهلة الأولى حالة من الكآبة تصيبك عند دخولك المبنى، لألوانه الباهته وروحه المنطفأة التي لا تشعلها سوى دفء وحماسة روح من به، فتتوه في طرقاته الطويلة وغرفه المتعددة، التي يشبه بعضها بعضًا لا يفرقهما سوى عدد الأسِرَّة، حتى تَألَف هذا الجو وتعتاده، مع أن عينيك ترفض ما تراه إلا أن أُلفتك مع الأصدقاء تُذهب بِك إلى عالم آخر.

 

أدخلتنْا إلى عالم المدينة الجامعية وعايشتنْا الحالة بكل تفاصيلها الحلوة والمرة صديقتنا "آية نادر"، أسكندرنية الأصل ذات الواحد والعشرون عامًا، قاطنة السكن الجامعي لجامعة القاهرة، سكنها للعام الرابع لهذا العام وبيتها الثاني، الذي تعلقت بمنْ فيه من أصدقائها الذين تقضي معهم نصف السنة تقريبًا بأيامها الحلوة والمرة، لتدخل تجربة معيشية جديدة، صدمتها بادئ الأمر في أول أيامها بالسكن، إلا أنها غلبت صدمتها وبدأت بالتأقلم، فتشرِكُنا برواية كواليس "سنة أولى سكن".

 

"أول يوم دة كان كارثة"، بصوتٍ يتخلله ابتسامة تَذَّكُر الموقف، سردت آية كارثة أول يوم لها بالسكن، فبعد عناء ملء الأوراق المطلوبة وتقديمها والتي لا بد أن تكون مختومة بختم النسر، يأتي أول يوم "يوم التسكين"، لتودع أهلها حاملةً حقائب عِدة بها كل ما يقضيها طيلة فترة السكن، قاطعة الطريق بالقطار نحو جهة العلم، فإذا بها عند وصولها تضع حقائبها جانبًا لتحجز مكانًا بالطابور الذي يمتد أمام السكن الجامعي "سكن رعاية الطالبات"، منتظرة الفرج بين مئات الطالبات اللواتي أتينا من شتى محافظات مصر لطلب العلم منتهجين مقولة "أطلبوا العلم ولو في الصين".

 

وحَلَّت الإنفراجة الأولى، فاستطاعت آية بما معها من حقائب وفي وسط هذه الطوابير، أن تظفر في النهاية بغرفة هي وصديقتها التي تعرفت عليها من خلال جروب لدفعة المستجدين على "الفيسبوك"، ومعهما طالبتان أخرتان، ترى الغرفة يسكنها الغبار منذ أشهر ليغطي ملامح ما بها من أثاث، فيستنجدون بــ "الدادة" المسؤولة عن النظافة لتأتي بقطعة قماش ما بها من غبار لا يقل عمَّا بالغرفة، فتمسح على المكاتب وتنزل على الأرض ثم تصعد بنفس قطعة القماشة على الخزانة، وها هي قد نظفت الغرفة.

 

لم تقتنع الفتيات حينها  بما قامت به "الدادة" فنهضوا للتنظيف، وبعد أن انتهوا وهلكوا من عناء السفر والطوابير والتنظيف، اكتشفت آية أن ما نظفتها توًا لم تكن غرفتها، وأن غرفتها في الطابق العلوي، فسحبت حقائبها وصعدت لغرفتها، لتجد كراكيب يكسوها الغبار، وكأنها عادت من نقطة الصفر، فجلست على طرف السرير وبدأت بالبكاء، ثم قررت أن تعود إلى منزلها في اليوم التالي، بعد أن علمت بأن محاضرات الغد قد أُلغيِت، وكأن قواها قد فرغت فعادت إلى مخزن طاقتها لتستمد منه القوة.

 

أدركت آية حينها أنها أمام تحدٍ عليها أن تجتازه، فقررت أن تُكمل وتتأقلم وعادت إلى السكن من جديد، حاملةً "الفوط والبطانية والكاتل والمكواة والمروحة" حيث يفتقر السكن لمثل هذه الأشياء  فتحملها معها سفرًا، مازحة "كأني راجعة من الكويت"، فرغم افتقار مبنى "إعلام" لمثل هذه الأشياء الهامة، إلا أنه يُعتبر من المباني المرفهة في المدينة، إذ يمتلك تِلفاز 26 بوصة يجذب كل قاطني المباني الأخرى في المدينة، فتسمع قهقهة وأحاديث تزلزل المبنى من كثرة العدد، الذي يفترش الأرض منتظرًا إحدى برامجه المفضلة، هكذا سردت آية حال المبنى مع التلفاز الوحيد بالمدينة، مضيفة "هو بيحتاج خبطة أوخبتطين علشان يشتغل بس تمام".

 

أرزٌ وصِنف خضار ولحم أو دجاج، هذة هي وجبة الغداء التي تبدأ من الساعة الواحدة ظهرًا وتنتهي في تمام السابعة مساءًا، وفي السابعة والنصف وحتى التاسعة تكون وجبة العشاء المتكونة من بيض ومربى وفول أوجبنة وغيرها، ولا تسألني عن الفطار، أما عن جودة الطعام فتقول آية معبرة بــ "الأكل ميتاكلش"، مضيفة أنهم تحدثوا مع المشرفات أكثر من مرة عن هذا لكن لا حياة لمن تنادي، مستحضرة في حديثها واقعة شِجَّار "الورك والصدر" الشهيرة التي تحدث عادةً بين الطالبات اللواتي لا يُحببن جزء "الورك" من الدجاج، وعلى الجانب الآخر المشرفة التي تحاول إقناعهن بأن الاثنين في النهاية دجاج.

 

"أغلبهن سيئات في التعامل، وبعضهن لطيفات"، هكذا وصفت آية تعامل المشرفات اللواتي يقضين يومهم كله معهن، فالبعض يتعامل معهن بعجرفه والبعض الآخر يتعامل بلطف، قائلة "بيعاملونا بشكل غير آدمي"، مستشهدة بواقعة مرض صديقتها التي لم تتحسن على دواء الطبيبة بالسكن، مما أضطرها الاتصال بالصيدلية لطلب علاج خافض للحرارة، إلا أن مشرفة السكن لم تسمح لها بتسلم الدواء من الصيدلي، لتأخر الوقت، رغم علمها بمرض زميلتها قائلة لها "هو انتي دكتورة".

 

ومن مشاكل السكن إلى أعياد الميلاد والليالي المِلاح، فعلى الرُغم من كل هذة المشاكل والأزمات التي لم تُحل جذريًا، إلا أن هذا لا يمنع من الاحتفال وصنع المفاجآت التي تُدخل البهجة والسرور على هذا الجو القاتم، فيقمن الطالبات بالغناء والمُزاح وتسلية أوقاتهم الذي يقتلها الملل بأجواء يملؤوها الضحك والسرور، حتى يقطع تلك الأجواء صوت المشرفة التي تشكو من عدم قدرتها على النوم في ظل هذه الضوضاء.

 

وبسؤالها عن الغربة، صمتت قليلًا ثم قالت "الغربة مش حاجة تتأقلم عليها .. الغربة جوانا"، مؤكدة أن المدينة تمثل لها تجربة مختلفة تمامًا عن أي تجربة أخرى تعرضت لها، وأنها بَنَّت عائلة لها هنا تشتاق إليها حينما تعود لمنزلها، وتشتاق لعائلتها حينما تكون في السكن، فخاطرها منقسم ما بين الأسكندرية والقاهرة.

 

" السكن هو كل حاجة وعكسها، بنحبه أووي علشان فيه أصحابنا، وبنكرهه جدًا علشان المشاكل اللي فيه، فيه الأوقات الحلوة ولمة الأصحاب، وفيه الأوقات الصعبة، وانا أستفدت جدًا من تجربة حياتي في السكن"، هكذا نهت آية حديثها مستبشرة خيرًا بالعام الدراسي الجديد الذي يهل علينا في أواخر سبتمبر، لتعود إلى عائلتها الثانية بالسكن منتصف شهر أكتوبر، منتظرة هذة العودة لمزيد من القصص واليوميات في السكن الجامعي.


رابط مختصر: http://shafaff.com/article/40026
تعليقات